الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان كأنه قيل: أي قوم؟ قال مبدلًا إشارة أن العبارتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم، لظلمهم أنفسهم بالكفرة وغيره، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد: {قوم فرعون}.ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى، وإعلامهم بجلاله، استأنف قوله معلمًا بذلك في سياق الإنكار عليهم، والإيذان بشديد الغضب منهم، والتسجيل عليهم بالظلم، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه، وأنه قد طال إمهاله لهم وهو لا يزدادون إلا عتوًا ولزومًا للموبقات: {ألا يتقون} أي يحصل منهم تقوى.ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم.لم يقبل، أخبر من تشوف إلى معرفة جوابه أنه أجاب بما يقتضي الدعاء بالمعونة، لما عرف من خطر هذا المقام، بقوله ملتفتًا إلى نحو {يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا} [الفرقان: 30] {قال رب} أي أيها الرفيق بي {إني أخاف أن يكذبون} أي فلا يترتب على إتياني إليهم أثر، ويبغون لي الغوائل، فاجعل لي قبولًا ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، ويجوز أن يريد ب {أخاف} أعلم أو أظن، فيكون {أن} مخففة، فيكون الفعلان معطوفين على {يكذبون} في قراءة الجمهور بالرفع مع جواز العطف على {أخاف} فيكون التقدير: {و} أخاف أنه، أو قال: إني {يضيق صدري} عند تكذيبهم أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالًا كما هو شأن أهل المروءات، وأرباب علو الهمم، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغًا {ولا ينطلق} ونصب يعقوب الفعلين عطفًا على {يكذبون} على أن {أن} ناصبة {لساني} أي في التعبير عما ترسلني إليهم به، لما فيه من الحبسة في الأصل بسبب تعقده لتلك الجمرة التي لدغته في حال الطفولية، فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة {فأرسل} أي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال {إلى هارون} أخي، ليكون رسولًا من عندك فيكون لي عضدًا على ما أمضى له من الرسالة فيعين على ما يحصل من ذلك، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال، وكفى بطلب العون دليلًا على التقبل، لا على التعلل.ولما ذكر ما تؤثره الرسالة، وقدم الإشارة إلى استكشافه لأنه أهم، أتبعه ما يترتب على مطلق التظاهر لهم فضلًا عن مواجهتهم بما يكرهون فقال: {ولهم عليّ} أي بقتلي نفسًا منهم؛ وقال: {ذنب} وإن كان المقتول غير معصوم تسمية له بما يزعمونه، ولذلك قيده ب {لهم} وأيضًا فلكونه ما كان أتاه فيه من الله تعالى أمر بخصوصه {فأخاف} بسبب ذلك {أن يقتلون} أي بذلك، مع ما أضمه إليه من التعرض لهم، فلا أتمكن من أداء الرسالة، فإذا كان هارون معي عاضدني في إبلاغها، وكل ذلك استكشاف واستدفاع للبلاء، واستعلام للعافية، لا توقف في القبول- كما مضى التصريح به في سورة طه.ولما استشرفت النفس غلى معرفة جوابه عن هذه الأمور المهمة شفى عناءها بقوله، إعلامًا بأنه سبحانه استجاب له في كل ما سأل: {قال} قول كامل القدرة شامل العلم كما هو وصفه سبحانه: {كلا} أي ارتدع عن هذا الكلام، فإنه لا يكون شيء مما خفت، لا قتل ولا غيره- وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام على الصدق من البراهين، المقوية لصاحبها، الشارحة لصدره، المعلية لأمره، عد عدمًا- وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك {فاذهبا} أي أنت وهو متعاضدين، إلى ما أمرتك به، مؤيدين {بآياتنا} الدالة على صدقكما على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ثم علل تأمينه له بقوله: {إنا} بما لنا من العظمة {معكم} أي كائنون عند وصولكما إليهم فيمن اتبعكما من قومكما؛ ثم أخبر خبرًا آخر بقوله: {مستمعون} أي سامعون بما لنا من العظمة في القدرة وغيرها من صفات الكمال، إلى ما تقولان لهم ويقولون لكما، فلا نغيب عنكم ولا تغيبون عنا، فنحن نفعل معكما من المعونة والنصر فعل القادر الحاضر لما يفعل بحبيبه المصغي له بجهده، ولذلك عبر بالاستماع؛ قال أبو حيان: وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط، لأن لفظة مع تباين من يكون كافرًا، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزًا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته-. انتهى.وهو كلام نفيس مؤيد بتقديم الظرف، ويكون حينئذ خطابهما مشاكلًا لتعظيم المتكلم سبحانه نفسه، لأن المقام للعظمة، وعظمة الرسول من عظمة المرسل، على أنه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البشارة بمن يتبعهما كما قدرته، ويجوز أن تكون المعية للكل كما في قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7]. اهـ.
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)}.اختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى، هل هو كلامه القديم أو هو ضرب من الأصوات، فقال أبو الحسن الأشعري: المسموع هو الكلام القديم، وكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الأشياء، مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع، وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات، وذلك لأن الدليل لما دل على أنا رأينا الجوهر والعرض، ولابد من علة مشتركة بينهما لصحة الرؤية، ولا علة إلا الوجود، حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى، ولم يثبت عندنا أنا نسمع الأصوات والأجسام حتى يحكم بأنه لابد من مشترك بين الجسم والصوت، فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعًا فظهر الفرق، أما المعتزلة فقد اتفقوا على أن ذلك المسموع ما كان إلا حروفًا وأصواتًا، فعند هذا قالوا إن ذلك النداء وقع على وجه علم به موسى عليه السلام أنه من قبل الله تعالى، فصار معجزًا علم به أن الله مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة، وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي {أَنِ ائت القوم الظالمين} لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد، ثم بعده يأمره بالأحكام، ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك.أما قوله تعالى: {أَنِ ائت القوم الظالمين} فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم، وقد استحقوا هذا الاسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم، ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل.أما قوله: {قَوْمِ فِرْعَونَ} فقد عطف {قوم فرعون} على {القوم الظالمين} عطف بيان، كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد.وأما قوله: {أَلا يَتَّقُونَ} فقرىء {ألا يتقون} بكسر النون، بمعنى ألا يتقونني، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة، وقوله: {أَلا يَتَّقُونَ} كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم، تعجيبًا لموسى عليه السلام من حالهم التي شفت في الظلم والعسف، ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله، ويحتمل أن يكون {أَلا يَتَّقُونَ} حالًا من الضمير في الظالمين أي يظلمون غير متقين الله وعقابه، فأدخلت همزة الإنكار على الحال، ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون، كقوله: {ألا يسجدوا}.وأما من قرأ: {ألا تتقون} على الخطاب، فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر، فإذا اندفع في الشكاية وحمى غضبه، قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به، ويقول له ألا تتقي الله ألا تستحي من الناس، فإن قلت: فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة، والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون؟ قلت: إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم، لأنه مبلغهم ومنهيه إليهم، وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى، وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرًا لها واعتبارًا بمواردها.{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)}.وفي الآية مسائل:المسألة الأولى:اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون، طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هرون إليهم، ثم ذكر الأمور الداعية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هرون، لاختلت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام، وذلك من وجهين: الأول: أن فرعون ربما كذبه، والتكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة، لأن عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب، وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ازدادت الحبسة في اللسان، فالتأذي من التكذيب سبب لضيق القلب، وضيق القلب سبب للحبسة، فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب، ثم ثنى بضيق الصدر، ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان.وأما هرون فهو أفصح لسانًا مني وليس في حقه هذا المعنى، فكان إرساله لائقًا الثاني: أن لهم عندي ذنبًا فأخاف أن يبادروا إلى قتلي، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة.وأما هرون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة.المسألة الثانية:قرئ {يضيق} و{ينطلق} بالرفع، لأنهما معطوفان على خبر {أن} وبالنصب لعطفهما على صلة أن، والمعنى: أخاف أن يكذبون، وأخاف أن يضيق صدري، وأخاف أن لا ينطلق لساني، والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هرون، والنصب يفيد علة واحدة، وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة، فإن قلت: الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلًا، فكيف جاز تعلق الخوف به؟ قلت: قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب، وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس، فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة، فجاز تعليق الخوف عليها.أما قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ إلى هارون} فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه، قال السدي: إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهرون وهو لا يعرفه، فقال أنا موسى، فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة، فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه، ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل، لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام، فلما كان هو متعينًا لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلومًا، وأيضًا ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا، لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل، كما يقال إذا نابتك نائبة، فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس في الظاهر أنه التمس كون هرون نبيًا معه، لكن قوله: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} يدل عليه.أما قوله: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} فأراد بالذنب قتله القبطي، وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص.واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام، أن يضم إليه هرون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد، واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبيًا فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين، وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد، والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه، فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به، وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت، ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم.المسألة الثالثة:لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} هل يدل على صدور الذنب منه؟ جوابه: لا والمراد لهم عليَّ ذنب في زعمهم.{قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)}.اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين: الأول: أن يدفع عنه شرهم والثاني: أن يرسل معه هرون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله: {كَلاَّ} ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله: {فاذهبا} أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون فإن قيل علام عطف قوله: {فاذهبا} قلنا على الفعل الذي يدل عليه {كلا} كأنه قال: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهرون.وأما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذًا أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما، وإنما جعلنا الاستماع مجازًا لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال. اهـ.
|